خالد علي يكتب: «مجلس الدولة» والحق الدستوري في الإضراب عن العمل

تنوية: المقال نشر بموقع مدى مصر

قضت المحكمة الإدارية العليا الأسبوع الماضي بفصل ثلاثة من موظفي هيئة البريد بسبب إضرابهم عن العمل، مقررةً أن الإضراب عن العمل ليس مشروعًا، قائلة إن الإضراب عن العمل في المرافق الحيوية هو «عدوانًا صارخًا على سلامة الدولة وأمنها الوطني».

وإن كان الحكم الصادر منذ أيام يزيد حالة التناقض مع أحكام قضائية وفتاوى قانونية سابقة، لا سيما تلك الصادرة منذ إقرار دستور عام 2012، إلا أنه يفرض ضرورة إنهاء هذا التشابك والتناقض أمام دائرة توحيد المبادئ.

كانت مبادىء المحكمة الإدارية العليا مستقرة على حظر الحق فى الإضراب عن العمل حتى منتصف الثمانينات على النحو الذى قضت به فى نظرها لإضراب عمال غزل المنيا وإضراب رابطة مرشدى قناة السويس. لكن مع صدور حكم محكمة أمن الدولة عليا طوارئ ببراءة عمال السكة الحديد عام 1987 من تهمة الإضراب عن العمل، لأنه لم يعد جريمة بتوقيع مصر على العهد الدولى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية وتصديقها عليه عام 1981 ونشره بالجريدة الرسمية عام 1982، والذي يجيز الحق في الإضراب عن العمل، بل وأضحى جزءًا من التشريع المصرى، ومن ثم ينسخ ويلغي نص المادة 124 عقوبات التي كانت تعتبر الإضراب عن العمل جريمة، ومن ثم قضت ببراءتهم لأن ممارسة الحق لا يمكن اعتباره جريمة، فضلًا عن أن تقاعس المشرع في وضع قواعد كيفية ممارسة الحق المعترف به قانونًا لا تعني مصادرة هذا الحق، بل تعني إطلاقه بغير قيد.

ومنذ هذا التاريخ بدأت المحاكم تغير رؤيتها للحق في الإضراب عن العمل، وتواترت أحكام المحاكم التأديبية في مجلس الدولة على أن الإضراب ليس جريمة بل ودعت المشرع لسد الفراغ التشريعي ووضع القواعد التي تنظم ممارسة الموظفين لهذا الحق.

وفي 2003 صدر قانون العمل رقم 12 ونظم ممارسة العاملين بالقطاع الخاص للحق في الإضراب السلمي عن العمل، لكن قوانين الوظيفة العامة تجاهلت وضع نصوص تنظم ممارسة الموظفين هذا الحق. وعندما صدر دستور 2012 اعترف بالإضراب كحق دستوري، وعلى ذات النهج أكد دستور 2014 على الاعتراف بهذا الحق.

خلال الفترة من 2012 حتى 2020 صدرت فتوى من الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع، وصدر ثلاثة أحكام من المحكمة الإدارية العليا بشأن وقائع تتعلق بالحق في الإضراب عن العمل، وجاءت المبادئ الواردة بها على نحو متناقض. حيث ذهب أول حكم إلى أن الإضراب يتعارض مع الشريعة الإسلامية، وجاء في حكم ثان أن الإضراب السلمي عن العمل حق كفله الدستور ولا جريمة على ممارسة حق دستوري، ونص حكم ثالث على أن الإضراب عن العمل جريمة تأديبية تستحق جزاء الفصل.

وصدرت فتوى الجمعية العمومية لقسمى الفتوى والتشريع قبل صدور دستور 2012 بناءً على طلب وزيرة الصحة بشأن مدى مشروعية قرار الجمعية العمومية لنقابة الأطباء بالإضراب الجزئى المفتوح للعاملين بالمنشآت التابعة لوزارة الصحة.

وانتهت الجمعية العمومية لقسمى الفتوى والتشريع إلى عدة نقاط:

(1) الإعتراف بالإضراب كحق كفلته الاتفاقية الدولية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة، ووقعت عليها جمهورية مصر العربية، وتم التصديق عليها بتاريخ 9 ديسمبر 1981.

(2) إزاء حالة الفراغ التشريعي في شأن تنظيم ممارسة الحق في الإضراب للموظفين العموميين، فإن الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع تهيب بالمشرع التدخل لتنظيم ممارسة هذا الحق بالنسبة لهم طبقًا لحكم الإتفاقية المنوه عنها لاسيما في المرافق العامة التي تقدم خدمات حيوية للمواطنين.

(3) وجوب ممارسة الحق في الإضراب طبقًا لأحكام هذه الاتفاقية بالنسبة للعاملين في المرافق العامة دون تعسف، وبمراعاة مقتضيات النظام العام والاحتياجات الأساسية للدولة ولمواطنيها وانتظام سير مرافقها العامة.

(4) وجوب قيام السلطة المختصة في المرافق العامة، وبصفة خاصة المرافق التي تقدم خدمات حيوية للمواطنين بوضع القواعد اللازمة لممارسة الحق في الإضراب للعاملين بهذه المرافق تحت رقابة القضاء نزولًا على ضرورات سير المرافق العامة بانتظام واطراد.

(5) مجاوزة قرار الجمعية العمومية الطارئة لنقابة الأطباء في الحالة المعروضة للحدود المشروعة لممارسة حق الإضراب، ومخالفته للطبيعة القانونية للنقابات المهنية.

(6) عدم جواز إلزام الأطباء بقرار الجمعية العمومية غير العادية للنقابة في الحالة المعروضة، مع عدم الإخلال بحق جهة العمل في مساءلتهم تأديبيًا في المستقبل في حالة تجاوز الضوابط المقررة لممارسة الحق في الإضراب طبقًا لما كشفت عنه هذه الفتوى.

المحكمة الإدارية العليا في ثلاث مناسبات منفصلة تلت صدور تلك الفتوى، قدمت مبادئ بعضها مناقض تمامًا لتلك التي صدرت عن الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع، وهي جهة الإفتاء القانوني الأعلى في مصر.

وجاء الحكم الأول في 28 أبريل 2015 عندما أصدرت الإدارية العليا برئاسة المستشار لبيب حليم حكمًا بتجريم الإضراب ومعاقبة الموظّفين العموميّين المضربين، بإحالتهم إلى المعاش. وارتكزت المحكمة في ذلك على ثلاثة مرتكزات. الأول: أنّ أحكام الشريعة الإسلاميّة تقول إنّه إذا كان الإضراب يؤدّي إلى إلحاق الضرر بالمتعاملين مع المرفق العام، فإنّ الشريعة الإسلاميّة لا تبيح هذا المسلك، لأن درء الضرر مقدم على جلب المنفعة. وضرر تعطل المرفق العام من جراء الإضراب يجب منعه، حتى لو كان في الإضراب مصلحة لبعض الموظفين.

والثاني هو أن اتّفاقيّة الحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة التي وقّع عليها الرئيس الراحل محمّد أنور السادات، وضعت شرطًا على تنفيذ الاتّفاقيّة، وذلك بالقرار الجمهوريّ رقم 537 لعام 1981، وهو الأخذ في الاعتبار أحكام الشريعة الإسلاميّة وعدم تعارضها مع الاتّفاقيّة.

أما المرتكز الثالث، فهو أن الموظف العام قد اختير لأداء مهمة معينة وفقًا لقاعدة التخصص وتقسيم العمل، ومن ثم فهو ملزم بأداء العمل المنوط به في الوقت المخصص له وفي المكان المخصص له وأن يطيع رؤساءه لأن طاعة الرؤساء تعتبر العمود الفقري في كل نظام إداري. وأنه إذا كان من حقه إبداء الرأي في الأمور العامة ولكن عليه وهو يمارس هذا الحق أن يتذكر دائمًا أنه موظف عام، وأنه يجب أن يلتزم في جميع تصرفاته بمقتضيات الوظيفة العامة، فهو ملتزم أيضًا بأن يكون مسلكه كاشفًا عن ولائه للدولة ولنظام الحكم القائم، والقدر الأدنى في هذا الأمر يتمثل في عدم مهاجمة نظام الدولة وفلسفتها الاجتماعية في الاجتماعات العامة أو الجلسات الخاصة وعدم القيام بأي تصرف يسيء إلى سمعة الدولة، أو أي تصرف يكون من شأنه النيل من سلامة النظام أو تجريحه، وعلى هذا الأساس فإن كل موظف يخرج على مقتضى الواجب في أعمال وظيفته أو يظهر بمظهر من شأنه الإخلال بكرامة الوظيفة، وكل موظف يخالف الواجبات المنصوص عليها في قانون الوظيفة العامة، فإنه يرتكب جريمة تأديبية تستوجب المؤاخذة وتستحق العقاب.

بعد شهور معدودة من هذا الحكم، وتحديدًا في 6 ديسمبر 2015، أصدرت الدائرة الرابعة بالمحكمة الإدارية العليا حكمها في الطعن 19485 لسنة 59 ق ع، والذي أكدت فيه أن الإضراب السلمي حق دستوري لكل الموظفين. واستندت المحكمة في حكمها إلى عدة مرتكزات:

المرتكز الأول: الحكم أكد على أن الإضراب أضحى حقًا دستوريًا للعمال والموظفين الحكوميين وليس جريمة أو منحة، وأن الإضراب يستمد وجوده وقوته ليس فقط من الاتفاقية الدولية، ولكن من النص عليه أيضًا بدستوري 2012 و2014، حيث نصت المحكمة صراحة في حيثيات حكمها الجديد على (أنه بموجب دستوري 2012 و2014 لم يعد الإضراب منحة بل صار من الحقوق الدستورية المكفولة لكل فئات العمال بغض النظر عن طبيعة الجهة التي يعملون بها.

المرتكز الثاني: الحكم أكد على أن تقاعس المشرع عن وضع قواعد تنظيم ممارسة الموظفين للإضراب لا يمنعهم من ممارسته لأنه صار حقًا وليس جريمة تستوجب العقاب، ونصت المحكمة صراحة في حيثيات حكمها على: أنه أضحى معترفًا به كحق مشروع من حيث المبدأ ومنح المشرع واجب تنظيمه، وسواء نشط المشرع أو لم ينشط لينظم هذا الحق على النحو الذى يستحقه شعب عظيم قام بثورتين -ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011، والثلاثين من يونيو 2013- فإن استعمال العمال لهذا الحق جلبًا لحقوقهم دون إضرار بالمرافق العامة إنما هو استعمال مشروع لحق ثابت دستوريًا ولا يستوجب عقابًا.

المرتكز الثالث: الحكم ذهب إلى أن أي إضراب عن العمل يعني امتناع الموظفين عن القيام بمهام عملهم، وبالتالي سوف يترتب على ذلك حتمًا إيقاف العمل بالمرفق، لأنه من غير المنطقي القول إن الإضراب حق دستوري وعند ممارسة الموظفين له نقول لهم إن هذا الامتناع مجرمًا ونقوم بمعاقبتهم، ونصت صراحة فى حكمها على: إذ إنه متى قرر الشارع حقًا اقتضى ذلك حتمًا إباحة الوسيلة إلى استعماله، إذ يصدم المنطق أن يقرر الشارع حقًا ثم يعاقب على الأفعال التي يستعمل بها، فيكون معنى ذلك تجريد الحق من كل قيمة وعصفًا به كلية وتحريمًا ومصادرة كاملة للحق ذاته.

ومنذ أيام، جاء الحكم الثالث والأخير للمحكمة الإدارية العليا، ليحظر الحق في الإضراب ويجرمه تأديبيًا بعقوبة تصل إلى الفصل من الخدمة.

وقضت المحكمة الإدارية العليا بفصل أربعة من العاملين من الخدمة لأنهم أضربوا عن العمل بالهيئة القومية للبريد أيام 23 و24 و25 فبراير 2014، حيث اعتصموا أمام مركز الحركة الفرعي خلال تلك الأيام، مما أدى إلى تعطيل العمل به، وقاموا بتحريض زملائهم على زيادة الاعتصام وغلق المكاتب مما ترتب عليه إضراب زملائهم وإغلاق العديد من المكاتب البريدية على مستوى الجمهورية وتعطيل العمل بها، وعدم قيام الموظفين المختصين بتحصيل المبالغ المالية المستحقة للدولة.

أهم مرتكزات حكم 2020

أولًا: جميع الدساتير المصرية منذ عام 1923 خلت من النص على الإضراب سوى دستور 2012 الذي نقل عنه دستور 2014، وزعم الحكم أنه غير قابل للتطبيق بذاته طالما أن المشرع الدستوري جعل أمر تنظيمه للقانون، وأن جميع الدساتير اتفقت على احترام الوظائف العامة وأنها تكليف لخدمة للشعب.

ثانيًا: لا توجد اتفاقية دولية صادرة عن منظمة العمل الدولية تنظم الإضراب في «المرافق العامة»، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان جاء خلوا من أية إشارات تصريحًا أو تلميحًا للإضراب كحق، وزعم الحكم أن كثير من رجال الفقه الدوليين يرفضون وصفه بالحق الدولي.

ثالثًا: إضراب الموظفين العموميين لا يتفق مع نظام المرافق العامة ويهدم أربعة مبادئ للقانون العام ونظام الوظيفة العامة المنبثقة عن القانون الإداري.

رابعًا : الإضراب محظور في الوظيفة العامة لتعارضه مع متطلبات المرافق العامة وما تقدمه من خدمات لا غنى للشعب عنها.

خامسًا: الوظيفة العامة تتكفل بمراقبة انحرافات الغير، وانحراف أعضائها أكثر خطورة على استقرار الدولة واستمرار مرافقها، وزعم الحكم أن إضراب الموظفين يترتب عليه فقدان ثقة المواطنين، وهم المؤتمنون على مصالح الدولة وأهدافها وتنميتها.

سادسًا: إذا كان الإضراب يعد عملًا قانونيًا في نطاق القانون الخاص بقيود نص عليها المشرع، فإنه على عكس ذلك عمل غير مشروع بالنسبة للموظفين العموميين.

سابعًا: الإضراب في المرافق الحيوية عدوان صارخ على سلامة الدولة وأمنها الوطني والقومي، وافتئات على الحاجات العامة للأمة؟

ثامنًا: حظر المحكمة للإضراب الوظيفي يسانده ما قررته الأجهزة الرقابية لمنظمة العمل الدولية من عدم المساس بالمرافق العامة الأساسية والحيوية.

تاسعًا: جميع أنواع الإضراب محظورة: التقليدي والدائري والقصير والمتكرر والتوقيفي المفكك والبطئ والمستتر والاعتصام (الإضراب مع احتلال موقع العمل).

عاشرًا: عمل الهيئة القومية للبريد يتصل مباشرة بمصالح المواطنين في كافة مناحى الحياة، والموظف العام أداة الدولة المنفذ لإرادتها ومشيئتها وفقًا لمبدأ الولاء الوظيفي.

حادي عشر: العاملون الثلاثة أضربوا عن العمل بالهيئة القومية للبريد عام 2014 وحرضوا زملائهم على الإضراب وتم إغلاق العديد من المكاتب البريدية على مستوى الجمهورية (المنوفية والشرقية والجيزة وأسيوط وبنى سويف)، مما منع الموظفين المختصين من تحصيل المبالغ المالية المستحقة للدولة.

ثاني عشر: التعارض بين حقين دستوريين، حق الإضراب السلمى وحق المواطن في استئداء خدمات المرفق العام، يوجب تغليب الحق الدستوري الجماعي المتعلق بمصالح المواطنين.

ثالث عشر: إزاء سكوت المشرع فإن المحكمة تتحمل مسؤوليتها القانونية نحو إرساء دعائم الحق والعدل بما يحفظ لسلطات الدولة الإدارية استقرارها ودوام سير المرافق العامة بانتظام واطراد بما يتلافى التعطيل عن الدوام الرسمي لعمل تلك السلطات.

تضعنا مرتكزات الأحكام الثلاثة الصادرة عن المحكمة الإدارية العليا أمام أحكام ومبادئ متناقضة، كان يستوجب معها إحالة الأمر إلى دائرة توحيد المبادئ لفض التشابك والتناقض في ما بينهم. كما تقدم مرتكزات الحكم الأخير تعارض صريح مع الحق الدستوري، بحسب دستوري 2012 و2014، في الإضراب عن العمل، لا سيما وأنه حظر كل أشكال الإضراب ولم يفرق بين الإضراب السلمي وغيره.

هنا، فإن التعارض بين تلك المبادئ يستدعي تدخل المشرع لتنظيم ممارسة الموظفين لهذا الحق الدستوري بما يحقق التوازن بينه وبين الحقوق الأخرى التي قد تتعارض معه أو تقيده. ولا يجب أن يؤدي تعمد غياب التشريع المنظم لهذا الحق المكفول من الدستور إلى حرمان العامل مطلقًا من ممارسته، ويتعامل معه باعتباره إثم يستحق عليه الفصل من العمل، فما قيمة كفالة الحق في الإضراب كحق دستوري وتجريم ممارسته في ذات الوقت دون بذل أي مجهود لتحقيق التوازن بين الحقوق المتعارضة بشأنه.


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *